هناك مقولة سارية بين كثير من الإستراتيجيين، وهي أن أفريقيا مستقبل العالم، بالنظر إلى مواردها الغنية، وطفرتها الديمغرافية، فهل يمكن أن تكون أفريقيا من باب أولى هي مستقبل أفريقيا؟
ذلك أن أفريقيا تعيش مفارقة، فهي قارة غنية، دولها فقيرة. ولها وضع جغرافي يتوسط قارات العالم، إذ تتوسط ما بين آسيا والأميركتين، وعن شمالها توجد أوروبا، وغير مؤثرة على مسار العالم.
كانت أفريقيا دومًا موضوعًا، عوض أن تكون فاعلة، أو مؤثَّرًا فيها، بدل أن تكون مؤثِّرة. لم تتحدث قط بلسان واحد، أو تحملها رؤية موحدة، رغم أن آباءها الماهدين حملوا أمل الوحدة، ورؤية بديلة للعلاقات الدولية والاجتماعية. فتّ الماضي الاستعماري وتقطيعه الجزافي في عضد أفريقيا، ومزق أوصال مجتمعات، وأبقاها حتى بعد الاستقلال في طور التبعية، اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا وثقافيًا، وتوزُّعها أثناء الحرب الباردة بين معسكرين متناحرين، مما أضعفها، ودفع بعضَها لخيارات خاطئة ومُكلِّفة، وتسبّب في تقاطبها.
كان جيلي ممن درس في الجامعة في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، يستحضر مقولة مهندس زراعي فرنسي، “روني ديمون”، من كتاب يحمل عنوان، “انطلقت أفريقيا انطلاقة سيئة”. كانت تلك هي الصورة التي علقت بأفريقيا، وكانت القارة السمراء غير وازنة على مسرح العلاقات الدولية.
عاودتني هذه الرؤى، بمناسبة ندوة حضرتها في نواكشوط افتتحها رئيس الجمهورية السيد محمد الشيخ ولد الغزواني، حول مستقبل أفريقيا، بتاريخ 22 يناير/ كانون الثاني الجاري.
اختيار موضوع أفريقيا وآفاق المستقبل موفَّق في عالم يمور، واختيار المكان صائب، لأن موريتانيا حلقة وصل بين شمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء. وإلى ذلك، فالبلد توليفة ناجحة للعنصر العربي والأمازيغي والزنجي، يمكن أن تكون مصدر إلهام لدول تتوزعها التناحرات العرقية واللسانية، ولذلك لم يكن المشاركون يجتمعون في مجرد مكان، بل في بلد يجسد فكرة.
يمكن أن نرصد أزمنة ثانية، كانت فيها أفريقيا موضوعًا، بعد الاستقلال أولًا، كما ألمعت، ثم بعد سقوط جدار برلين ثانيًا. عرفت بعض دول أفريقيا في الفترة الثانية بعض المحاولات الديمقراطية المُبتسرة التي أفضت إلى اهتزازات كما في كوت ديفوار، أو الكونغو الديمقراطية، التي كانت تُعرف بـ “زائير”، أو حروب أهلية مُروّعة كما في رواندا والصومال، واستفحل الأمر مع الاتجاهات الراديكالية، ونشاطها في منطقة الساحل. أصبح الاهتمام بأفريقيا منصبًا على قضايا أمنية بالأساس، من خلال مقاربة غربية وقوالب فكرية بزغت في الغرب، أو هاجس استغلال مواردها الطبيعية.
لعل مرحلة ثالثة تلوح في الأفق، مع التغييرات الإستراتيجية التي يعرفها العالم، وتبدُّل الفاعلين، وتغيير القواعد الناظمة للعلاقات الدولية تكون فيها أفريقيا مالكة لأمرها، وتُوظف خيراتها لصالحها. يتطلب الأمر قراءة نقدية للمرحلة الثانية التي بدأت مع سقوط جدار برلين إلى اليوم، وهي مرحلة ليست كابية بالمرّة، وليست زاهية بالمرّة.
هناك قصص نجاح لدول، ولشرائح مندمجة من دول، وارتفاع حجم مبادلات أفريقيا مع العالم وتنوعها، ولكنْ هناك بؤر، وهي الغالبة، لتوتر يتأرجح ما بين عالٍ، ومتوسط، إما بداخل الدول، أو في العلاقات البينية بين بعض الدول المتجاورة.
دخلت أفريقيا، في الفترة الثانية، العولمة بفضل الهاتف المحمول والإنترنت، وعرفت طفرة ديمغرافية غير مسبوقة، وبدا ما يسميه الإستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس بـ”جاذبية أفريقيا”، وتنافس القوى الكبرى على مواردها. لكن هذه العناصر كلها، لن تجعل من أفريقيا قوة، ولا فاعلًا على مسرح العالم، ولا يؤهلها أن تُوظّف ثرواتها لصالحها، أو لصالح مجتمعاتها، إلا لفائدة فئة من الوسطاء أو رؤوس أوليغارشيات.
ظلت النظرة الغربية إلى أفريقيا مجروحة. يُنظر إليها من زاويتين تصدران عن الغرب: الزاوية الأمنية، وزاوية الهجرة. ينضاف إلى ذلك نظرة أخرى عند كل، من روسيا والصين، هي من أجل وضع اليد على مواردها، ومناكفة القوى الغربية.
لا جدال أن جماعات متطرفة تنشط في منطقة الساحل تهدد الأمن والاستقرار، لكن طبيعة تلك الجماعات تستدعي قراءة دقيقة، فهي في الغالب تُوظف توكيلًا – فرانشيز- مُعينًا لحركات جهادية، من أجل قضايا محلية، إما بحثًا عن نوع من الاعتراف المحلي، بناء على خصوصية قبلية، أو لسانية، أو الاستفادة من الثروات التي توجد في ترابها.
إلى ذلك هناك جماعات محركها الجريمة المنظمة، أو المخدرات أو الاتجار بالبشر، أو تبييض الأموال، وتستعمل للتمويه مرجعيات سياسية متطرفة. الأمور أعقد من أن تُردّ إلى عنوان كبير اسمه “الجهاد العالمي”.
ولذلك يتوجب الخروج من النموذج الويستفالي (نسبة لويستفاليا)، الذي أرسى مفهوم الدولة الحديثة، في حدود معينة، وسيادة مطلقة، أو نموذج الإستراتيجي الألماني كوتزفيتس، الذي يرى في الحرب استمرارية للسياسية، ويميز بين الحرب الصغيرة والحرب الكبيرة، ومحددات كل منهما، بالنظر إلى تعقد أشكال الصراع في أفريقيا، وعدم انسكابه في قوالب مُنظر “في الحرب”، أو البقاء في المرجعية الفيبرية، نسبة لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي جعل الدولة محتكرة العنف المنظم، والحال أن مصدر السلطة أو وجهها ليس العنف وحده واحتكاره، إذ يمكن أن يكون مصدر السلطة التأثير في القلوب.
. حسن أوريد
أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد