الثلاثاء , 18 فبراير 2025
أخبار عاجلة
حياة السفر في حضارتنا…عناق الثقافة والصناعة الزاهرة

حياة السفر في حضارتنا…عناق الثقافة والصناعة الزاهرة

وصف شيخ الرحّالين في الحضارة الإسلامية ابن بطوطة  (ت 779هـ/1377م) ما توفره بعض “محامل” السفر في عصره من رفاهية لراكبيها؛ فقال إنه “يَرى الذي بداخلها الناسَ ولا يرونه، ويتقلّب فيها كما يحبّ وينام، ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سَيْره، والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها [محمل] شبه البيت…، وعليه قُفْلٌ”!!

والواقع أنه لو أتيح لك أن تعاين شبكات الطرق وخرائط حركة المسافرين التي كانت تمسك بعُقَد الجغرافيا الإسلامية في الأزمنة الأولى؛ لوجدت نفسك قبالة عالم مشغول بالحركة والنشاط، مفعم بالحيوية والتواصل، فلم تكن الحضارة الإسلامية لتبلغ ذلك الشأو من التميز والتفرد العالمي لولا تلك الطرق الآمنة والسُّبُل المُذلَّلة والمعابر الممهَّدة، والحركة التي لا تعرف التوقف بين حواضرها المركزية، وبين الأخيرة وجوارها الحضاري في الجهات الأربع.

لقد استمع المسلمون إلى القرآن الكريم فوجدوه يدفعهم نحو السعي في الأرض والمشي في مناكبها، ورأوه يحدثهم عن بسط الرزق وضرورة الخروج لطلبه في أرض الله الواسعة، وحثهم على الهجرة إذا ضاقت أمامهم أوطانهم أو ضُيِّق عليهم في عقائدهم وشعائرهم، كما عَدَّ القرآنُ حمْلَ بني آدم في البَرّ والبحر من أسباب التكريم والارتقاء الحضاري، لما يحققه ذلك من وفرة في العيش ورافد للعقل وزاد للروح.

والحق أن المسلم في زمنه الحضاري الأول لم تكن تكتمل شخصيته العلمية ولا التجارية والسياسية إلا عبر تجواله في جنبات الأرض، واختراق الآفاق طلبا للخبرات بالمعارف والخيرات بالصفق في الأسواق؛ فبسبب هذا التجوال اغتنى العالم الإسلامي بالحواضر الزاهرة بعمرانها المادي والمعنوي، فلم تحتكر الحدودُ المنافعَ والثمرات، ولم تحبس المؤسساتُ القُطْرية المواهب والكفاءات، وقلما عاش عالم أو مثقف في القرون الأولى منعزلا في بيته أو بيئته، بل انساحت العقول في البوادي والحواضر تؤثر وتتأثر، مبرهنة على أن “الرحلة في طلب العلم” قيمة كبرى في الحياة العلمية الإسلامية.

وإذا كان المسلمون قد جاؤوا إلى مواطن حضارات فألْفَوْها قد أقامت سلفًا شبكات الطرقَ والجسور، وتوسعت في تهيئتها وتيسير معابرها للمسافرين؛ فإنهم أضافوا إلى ذلك الميراث الحضاري الإنساني بصماتهم الخاصة، فقاموا بتطوير وصيانة ما ورثوه من منجزاته، ثم رفدوه بالجديد على كل الصُّعُد ذات الصلة بعوالم الأسفار وحياة المسافرين.

فقد شهدت العصور الإسلامية نهضة عمرانية في البنى التحتية لخطوط السفر والتجارة والممرات الدولية، واتسعت وانتعشت في أزمنتهم -عبر تلك الخطوط والشبكات- التبادلات الثقافية والتجارية، وتيسرت روابط التواصل الاجتماعي، وتمهّدت قنوات التفاعل السياسي والدبلوماسي بل والعسكري.

وازدهرت كذلك حركة السفر البحري بين المشارق والمغارب والجنوب والشمال، وعبر مختلف الأنهار والبحار والمحيطات، ثم أضيف إلى مهمة البحارة المسلمين وظائف أخرى تتعلق باستكشاف الأقاليم واقتحام المجاهل، ومحاولة فهم العالم ورسم خرائطه، وتدوين تقاليده البحرية وأشهر معالم أممه وملامح ثقافاته.

والسفر في القديم كان حياة مستقلة ومتكاملة لأصحاب القوافل وهي تجوب المفازات والمسافات الشاسعة طوال أسابيع وربما أشهر، وهي تكاد تكون موازية لحياة التوطن والاستقرار؛ فكان المسافرون يقضون فيها شطرا معتبرا من أعمارهم تتناقلهم القوافل في حلقات أسفار لا تعرف التوقف، لذلك كانت هناك حاجة ملحة لمدّ الطرق بكل الخدمات الممكنة، وتزويد محطاتها بوسائل الراحة والتأمين المتاحة.

ففي هذه الحياة المتنقلة كانت تمارَس الأنشطة الإنسانية على تنوعها واتساعها، ولذا تجاورت في يوميات القوافل أنشطة الأكل والنوم والعبادة والتعليم والمسامرة واللعب، واكتسى كل ذلك بآداب السفر وأدبيات العشرة فيه، والتكافل بتقاسم الزاد وتبادل المنافع والخدمة، والتضامن في لحظات المنغصات من عطش وتيه وعواصف وأمطار وحوادث نهب وسطو، بل وحتى المرض والوفاة.

ويمكن القول إن الأسفار والرحلات في الخبرة الإسلامية كانت تتوفر لها أجهزة إدارية احترافية، تنظم عملها فتخطط حركة القافلة وتضبط أنشطة حياتها رغم تشعبها وضخامة أعدادها وتنوع أعضائها من الرجال والنساء والصبيان، وتضبط مواقيتها انطلاقا ومسيرا ووصولا، وتوفر خدماتها وتسهيلاتها في الحَل والمُرتحَل للمسافرين ودوابهم، وتراعي معايير اتخاذ محطات الطريق أمنيا ولوجستيًّا وخاصة في المسارات الطويلة.

وكان القائمون على تسييرها يملكون خبرة واسعة في إدارة حشود المسافرين ومرافق خدماتهم، وفهم التضاريس البيئية والإلمام بأحوال الطقس والمناخ، وكذلك مراقبة خريطة التوترات السياسية والتحسب للمفاجآت التي تحفل بها الطرق وتوفير البدائل اللازمة، وبالتالي ترتيب آليات حماية القافلة -خلال مراحل التحرك وفي محطات الاستراحة- من قلاع وحصون ودوريات ثابتة ومتحركة، لصدّ عوادي قطّاع الطرق من قبائل الأعراب والجماعات المسلحة كتنظيم القرامطة وعصابات الصليبيين.

كذلك زُودت القوافل باللوازم الطبية الإسعافية، وبشتى احتياجاتها التموينية اليومية، كما عرف مراكب الزمن القديم درجات السفر التي تراوحت من “الدرجة الاقتصادية” إلى “الدرجة الأولى”، وكل ذلك كان ينعكس على مستوى التكلفة المادية، حيث كانت تخصَّص لذلك رواحل الركوب الفارهة، وإقامات الاستراحة الجيدة، وخدمات الطريق والفندقة المميزة.

وفوق ذلك كله عرفت السلطات المحلية الإسلامية تعقيدا إداريا في إجراءات السفر قريبا مما يجري في عصرنا؛ فرغم وحدة دار الإسلام على المستوى الشعوري والمعنوي، فإن أنظمة البلدان الإسلامية وضعت قواعد لتفتيش القوافل العابرة، والتأكد من هُوِّيّات وغايات مرافقيها، وتحصيل الرسوم الجمركية، ومنح الموافقات والتراخيص اللازمة للدخول والمرور والإقامة، على نحو يشبه الترتيبات المعاصرة لإجراءات السفر ووثائقه من جوازات