أبوبكر حامدن
أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي خلقه، وأفضل وسيلة لخلق المستقبل هي استقطاب أفضل العقول والاحتفاظ بها.. استوقفتني هذه المقولة للكاتب الأمريكي، بيتر دراكر، وذكرتني -والذكرى مؤرقة- بسردية استقطاب الكفاءات المهاجرة وتشجيعها على العودة إلى الوطن. ذكرتني بتلك السردية التي ما فتئت النخب السياسية ترددها، وأنا أتابع في الوقت نفسه تراجيديا مسابقة التعليم العالي، التي شارفت على إكمال عامها الأول دون أن يتبيَّن منها خيط أبيض.
هل حقاً يعي هؤلاء ما يقولون عند الحديث عن استقطاب الكفاءات وتشجيعها على العودة إلى الوطن؟ هل يأخذون في الحسبان الشروط اللازمة لجذب أصحاب المواهب والاحتفاظ بهم في عالم شديد التنافسية، أم أن كلَّ ما يقال بهذا الخصوص مجرد أحاديث للاستهلاك الإعلامي أو تفكير بصوت عالٍ كما يقال؟ وهل الممارسات السائدة عندنا في المسابقات تصب في هذا الاتجاه أم في مسار معاكس، لجهة دفع من بقي من الكفاءات في الوطن إلى التفكير في المغادرة بحثاً عن مكان يقيَّم فيه الشخص بناء على مؤهلاته العلمية وتجاربه المهنية، لا على علاقاته الشخصية وامتداداته الاجتماعية؟.
لا أعد بتقديم إجابات على هذه الأسئلة، التي ترددتُ كثيراً في طرحها، لأسباب لستُ في وارد شرحها هنا، بل سأكتفي بعرض نزر من الاختلالات الإجرائية التي شابت سير المسابقة على مدى عام أوشك على الانصرام. سأعرض ملاحظاتٍ فقط بشأن الاختلالات التي لا يمكن المِراء فيها، بينما أضرب صفحاً عن الأمور التي قد يكون لها أكثر من وجه، وما أكثرها!.
الملاحظة الأولى: بعد أن أعلنت اللجنة عن المسابقة، في السابع من ديسمبر 2023، وقدّم بعض المترشحين ملفاتهم وأصبحت وثائقهم متاحة على المنصة الرسمية التي تشرف عليها الجهات المنظمة، تم تغيير توصيف بعض المقاعد، ثم مُددت آجال الترشح مرتين.
الملاحظة الثانية: في مرحلة القبول الإداري تم إقصاء الكثير من المترشحين لدوافع متعددة من ضمنها أن فئة منهم لم تُحمِّل على المنصة بعض الوثائق المطلوبة، وذلك خطأ لا يمكن تداركه بحسب إعلان المسابقة الذي هو دستورها. هذا الخطأ استبعد بعض من وقع فيه دون آخرين؛ لأن الجهة المنظمة ميزت بين الشهادات وابتدعت مصطلحاً لطيفاً أطلقت عليه “الشهادة البينية”، وهي تلك التي لا يتم الإقصاء لعدم وجودها.
الملاحظة الثالثة: في مرحلة قابلية النجاح، لم تنشر اللجنة تفاصيل النتائج للمتسابقين، بل اكتفت بإرسال موجز عنها لكل متسابق، عبر حسابه في المنصة، يتضمن النقاط التي نالها في عناصر التقييم الثلاثة (المسار الأكاديمي، التدريس، البحث)، دون أن يعرف على وجه الدقة ما حُسب له وما لم يحسب في كل عنصر، في حين تقتضي الشفافية والمنطق أن يعرف المتسابق كلَّ شيء عن ملفه على الأقل.
الملاحظة الرابعة: في مرحلة قابلية النجاح، كشفت اللجنة عن بعض المعايير التي طَبقت، وبعضها مخالف تماماً لشبكة التنقيط المرفقة بإعلان المسابقة. على سبيل المثال تعطي الشبكة كل مقال منشور بمجلة دولية ذات مُعامل تأثير من أربع إلى عشر نقاط، حسب قوة المُعامل، أما اللجنة فاعتبرت أن المجلات الدولية ذات مُعامل التأثير هي فقط تلك المدرجة في قاعدة بيانات شبكة العلوم، وهو لعمري تفسير فيه ما فيه.
الملاحظة الخامسة: بعد البت في تظلمات مرحلة القابلية، حددت اللجنة فوراً تاريخ امتحان اللغة، وأعطت مهلة لا تتجاوز خمسة أيام، مع العلم أن من ضمن المتسابقين مقيمون في الخارج، لديهم ارتباطات مع جهات عمل، ويحتاجون مهلة معقولة؛ لأخذ إجازة ثم الحضور، وبالتالي لم يتمكن بعضهم من المشاركة.
الملاحظة السادسة: قدم بعض المتسابقين الذين لم يتمكنوا من إجراء امتحان اللغة والمقابلات التي تلته في المرحلة النهائية طلبات للسماح لهم بإجرائها، وحتى كتابة هذه السطور لم يصلهم رد، فيما أعيد امتحان اللغة لأحد المترشحين، بعد أن تغيب عنه لسبب ما، ثم تصدر في أحد المقاعد التي ينافس عليها.
الملاحظة السابعة: لم تكن اللجنة خلال هذا العام تعطي إحاطات منتظمة بشأن سير المسابقة، وهو شرط بديهي من شروط الشفافية. وبالتالي تركت الباب موارباً للتكهنات وإثارة الشكوك، وهي شكوك تعززت مع صدور النتائج بمراحلها المختلفة، ودفعت الكثير من المتسابقين إلى التظلم، ثم الطعن فيها.
الملاحظة الثامنة: نُشرت عدة بيانات في الإعلام باسم اللجنة، تضمنت ردوداً على متسابقين انتقدوا عملها، بينما كان يجدر بها أن تبادر هي بتوضيح مسار المسابقة، بما أنها أخذت كل هذه الفترة الزمنية التي تحتاج فعلا إلى تبرير.
الملاحظة الأخيرة: لم أورد ما يتداوله طيف عريض من المتسابقين من اتهامات للجهات المنظمة ومن تشكيك في نزاهتها، وذلك إما لأنني لا أفضل الاعتماد على ما قُدِّم من معطيات، أو لأن المسائل المثارة وإن كانت واضحة، إلا أنها مما يسوغ الاختلاف بشأنه، ويمكن المراء فيه.
بعد هذه الملاحظات، وبما أنني في البداية لم أعِد بتقديم إجابات على الأسئلة، سأكتفي بالإشارة إلى أمل أظن أن الغالبية تتشاركه، وهو ألا تدفع مثل هذه المسلكيات إلى تفريغ البلاد من بقية أصحاب الكفاءات، أما استقطاب كفاءات من المهجر فينبغي أن يكون محل نقاش؛ لخلق البيئة المناسبة له، وفي انتظار ذلك يبقى حفظ الموجود