الجمعة , 19 أبريل 2024
أخبار عاجلة
نحن وسينغال… وغامبيا

نحن وسينغال… وغامبيا

وكالة الاتصال – لست مغرما بسنغال، وحبي لموريتانيا كنفسي. لكني أعتقد أن كُرهنا العاطفي (إن لم أقل العنصري) لسنغال لا يضرها ولا ينفعنا.

ويبدو أن أزمة “غامبيا” ودور بلدنا فيها يثير أشجانا وينكأ جراحا مع جارتنا الجنوبية على عدة مستويات، أكثرها ـ في هذا الفضاء الرقمي خاصة ـ موغلة في السذاجة والغفلة، وأحيانا المغالطة!

بالنسبة للأزمة الغامبية، أظهرت التطورات الأخيرة أننا لم نكن على المستوى السياسي والدبلوماسي الحصيف الذي ندعي. فبما أن الرئيس الخاسر يحيى جامي صديقا محببا لنا، فقد اتجه تدخلنا لصالحه، بل و”إنقاذه” بكل شهامة و”براءة”. وهذا هو الواجب في العلاقات الشخصية والإنسانية، ولكنه في العلاقات بين الدول يتطلب سندا يحميه ويعصمه من أي انعكاس سلبي على المصلحة الوطنية؛ إما من القوة والنفوذ، وإما من “الضمانات” الدولية الموثقة.

ومن البديهي أن موريتانيا كان عليها أن تأخذ في الحسبان مع ذلك التصرف الإنساني النبيل ثلاث حقائق مؤثرة:

1- أن يحيى چـامي طرف خاسر؛ أنهته الانتخابات باعترافه، ورفَضه شعبُه، وأجمع العالم الإفريقي والأممي على ضرورة مغادرته الحكم. وبالتالي فلا مستقبل له في سلطة بلده. بل إنه بسبب استبداده وكثرة المظالم عليه معرض للمتابعة الجنائية، وطنيا ودوليا.

2- أن الشعب الغامبي، وهو الثابت الوحيد، قد اختار رئيسا آخر منافسا، وهو وحلفاؤه في الداخل والخارج من أعداء يحيى جامي، هم السلطة المستقبلية (ولو إلى حين) وبالتالي يجب مد اليد إليهم والتنسيق معهم وكسب ثقتهم… حفاظا على مصالح موريتانيا؛ وأولها وأهمها أمن وممتلكات وأعمال الجالية الموريتانية المهمة في ذلك البلد.

3- أن السنغال لها وضعية فريدة تمكنها من الانفراد الجغرافي بغامبيا وما فيها، وفوق ذلك هي الحليف الرئيسي، أو حتى المتحكم، في الرئيس الفائز وأنصاره، وتحتضن أهم حلفائه من المعارضين الحانقين على يحيى چـامي؛ وقد كسبت ضمن “الإكواس” تفويضا إقليميا وأمميا ودوليا للتدخل في غامبيا، باسم تحقيق إرادة الشعب الغامبي وتمكين الرئيس الفائز من منصبه.

وكل هذا يجعل التشاور والتنسيق مع السنغال، أمرا مفيدا بل وضروريا مهما كلف معنويا… لضمان المصالح الموريتانية نفسها لدى جميع الأطراف وفي جميع الاحتمالات.

ولا نحتاج القول إن كل تقارب وتفاهم مع هذا البلد الجار هو أصلا مكسب في حد ذاته ومصلحة لصالح موريتانيا وصالح مواطنيها في السنغال وفي غامبيا ذاتها (حيث أن السينغال ـ خارج هذه الأزمة ـ هي المعبر الوحيد الطويل لهم إلى وطنهم)!

*

إذن ما الذي حدث، وكيف تحول التدخل المتأخر والوحيد الجانب للقيادة الموريتانية من “بطولة” دبلوماسية إلى مأزق يدعو إلى الحسرة والندم؟!

لقد تحدث المطبلون عن تدخل موريتاني حاسم لمنع الحرب وفرض الأمن والسلام، وغمزوا ولمزوا، حتى على مستوى الرئيس، النظام السنغالي بأنه يسعى إلى حرب مدمرة. بينما ليس هناك ـ حتى الآن ـ أي مجال للحرب؛ لو اقتحمت القوات السنغالية غامبيا واحتلتها… لأن الشعب الغامبي والعالم يتفهمون ذلك ويرحبون به كما أسلفنا. والحرب، أي حرب، تحتاج طرفين على الأقل! فأين الطرف الذي سيرد على القوات الغازية، بعدما أكد قادة الجيش والأمن في غامبيا نفسها أنهم لن يقاتلوا قوات “الإيكواس” (وأساسها قوات سنغالية)، لأن هناك اتجاها شعبيا عارما لمساندة تدخلها لإزاحة الحاكم المتصلب؟؟!!

وهكذا كان جليا أنه لن تكون هناك حرب في هذه المرحلة على الأقل؛ بل يتدثر السنغال وحلفاؤه بجلباب حماية الديمقراطية ونجدة الشعب الشقيق؛ ونحن نعلم أنه “يسر حسوا في ارتغاء”!

لكن كيف عالج السينغال الأزمة وتعمد أسلوب التهديد والإحجام، والإيهام بأنه يقبل الوساطة ويعطيها الفرصة، مبالغة في إظهار حسن النية؛ وهدفه إخراج يحيى جامي وعدم تمكينه من الاختفاء في أحد أدغال غامبيا أو “كاصمانص”؛ حيث رجال الثورة المسلحة ضد النظام السنغالي…؟!

وكيف مضى الوسيطان إلى آخر “البراءة” وهم يصدقون هذا الموقف ويخرجان صديقهما بما استطاع من المال والمتاع، ويصوغان معه مشروع اتفاق لم يوقع عليه أحد، ولم تبال الأطراف الأخرى بمضمونه ولا نقاشه، فضلا عن قبوله بالطرق المعهودة؟!

*

وهكذا توشك الأزمة الغامبية أن تنتهي ـ في هذه المرحلة ـ بإقصاء موريتانيا من حيث دخلت، وتجعلها أمام خيارين أحلاهما علقم:

إما أن تكتفي بإنقاذ بالملازم يحيى جامي و”صناديقه”، وتبحث عن سبل وأطراف أخرى تتوسل بها لحماية مصالحها، وتمكينها من تصحيح الصورة المغلوطة لدى الرأي العام الغامبي عن طبيعة تدخلها، وإظهار الصورة الحقيقية لذلك التدخل؛ وهي مساعدته على حل أزمته وتحقيق خياره الديمقراطي، والحيلولة دون التدخل الأجنبي الذي لن يكون إلا كارثة أخرى عليه، خاصة على المستوى البعيد.

وأما الخيار الثاني: فهو تحدي السنغال ومجابهتها، ولو على “جبهات” العلاقات الثنائية الموريتانية السنغالية الكثيرة.

ولدى موريتانيا طبعا أوراق وفرص كثيرة في هذا المجال، لكنها جميعا تؤدي إلى ما هو أسوأ من الأزمة الغامبية، وهو التوتر والنزاع مع هذا البلد الجار المهم، والذي لا يتحكم فقط في مصالح الموريتانيين في السنغال، ولكنه ـ بحكم الجغرافيا ـ يتحكم في مصالح الموريتانيين في غامبيا (حتى لو انسحب منها).

إذن فإنه سيكون من الحكمة البحث عن خيارات أخرى، أقلها ضررا محاولة إصلاح الموقف بترك العواطف واجتناب “العنتريات”، والتركيز على مد الجسور مع النظام الجديد في غامبيا ورئيسها المنتخب؛ وذلك بسفارة كفاءات دبلوماسية لها خبرة ومعرفة بخبايا السياسية الغامبية، وتوظيف نفوذ وخبرة الجالية الموريتانية في غامبيا في نفس الوقت.

ومن جهة أخرى مواصلة الجهود الدبلوماسية لدى الأصدقاء والمنظمات الإفريقية، ولدى الدول العربية الصديقة لسينغال للضغط عليها من أجل الاعتراف بالمصالح الموريتانية ومراعاة الحقوق الإقليمية لها في غامبيا؛ وتوظيف علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة الكثيرة مع دكار، بشكل ودي ولكنه حازم وذكي أيضا في سبيل ذلك.

مهما يكن من أمر، نعلم جميعا أن السنغال ليست دولة جارة فقط، ولكنها أيضا “دولة” مهمة على قدر كبير من النفوذ والمحورية في القارة وفي العالم، بما فيه العالم العربي، وتتمتع بقدر أصيل من الاستقرار والديمقراطية، والنظام واحترام القانون، وكفاءة المؤسسات التعليمية والصحية ـ حيث كنا ولا زلنا نلجأ إليها ـ لأنها الوحيدة التي نجاها الله من سوسة الانقلابات العسكرية في منطقتنا!!